إيران وأفريقيا- استراتيجية جديدة أم استمرار لنهج رئيسي؟

المؤلف: د. بدر حسن شافعي10.28.2025
إيران وأفريقيا- استراتيجية جديدة أم استمرار لنهج رئيسي؟

إن انخراط إيران في الشأن الأفريقي ليس بظاهرة حديثة العهد، بل يعود بجذوره إلى حقبة ما قبل ثورة 1979، حين كان الشاه، متحالفًا مع السياسات الأمريكية، يولي اهتمامًا بالقارة السمراء في سياق دعم جهودها للتصدي للنفوذ السوفياتي المتنامي آنذاك.

بيد أنه بعد الثورة، ومع بزوغ شعارات جديدة، كفكرة الحكومة الإسلامية العالمية، ونصرة المستضعفين، ومعاداة الغرب والولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها "الشيطان الأكبر"، اتخذ الاهتمام بالقارة الأفريقية مسارًا مغايرًا، لا سيما مع تغلغل المشروعات ذات الطابع الديني في صلب السياسة الخارجية الإيرانية.

لقد اضطلعت القيادة السياسية، سواء المحافظة أو الإصلاحية، بدور محوري في تعزيز الاهتمام بالقارة الأفريقية. غير أن هذا الاهتمام شهد تراجعًا ملحوظًا خلال فترة حكم الرئيس الإصلاحي حسن روحاني (2013-2021)، الذي لم يقم بزيارة واحدة للقارة طيلة فترة ولايته، مما ألقى بتبعات جمة على عاتق خلفه الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، الذي شدد منذ توليه منصبه على أن أفريقيا "قارة الفرص"، وأنه سيعمل على زيادة حجم التبادل التجاري معها.

رئيسي وأفريقيا

وفقًا لما صرحت به وزارة الخارجية الإيرانية، فقد كان المبتغى، منذ بداية عهد الرئيس إبراهيم رئيسي، هو رفع حجم التبادل التجاري مع أفريقيا إلى ما يزيد على ملياري دولار سنويًا، وكسر الحصار الدولي المفروض على إيران من قبل الولايات المتحدة إثر انسحاب الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب من الاتفاق النووي عام 2018، وإعادة فرض العقوبات عليها، فضلاً عن تحسين الصورة النمطية لبلاده في القارة بعد تجاهل سلفه حسن روحاني لها.

وعليه، ركزت طهران جهودها على دول القرن الأفريقي بمعناه الضيق "الصومال، إريتريا، إثيوبيا، جيبوتي"، فضلاً عن السودان وكينيا في مفهومه الأوسع. وإلى جانب ذلك، كانت هناك رغبة جامحة في استعادة العلاقات الدبلوماسية مع بعض الدول الأفريقية، كالسودان وجيبوتي، بعد قطعهما تلك العلاقات تضامنًا مع السعودية في خلافها الشهير مع طهران عام 2016.

في هذا السياق، قام الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي في يوليو/تموز 2023 بأول جولة لرئيس إيراني إلى القارة منذ أكثر من عقد من الزمان، وشملت الجولة كينيا وأوغندا وزيمبابوي، وقد وصفت طهران هذه الزيارة بأنها "بداية عهد جديد" في العلاقات مع القارة، حيث تم التوقيع على العديد من مذكرات التفاهم في ميادين متنوعة كالطاقة والزراعة وتكنولوجيا المعلومات والصناعة. كما أوكل إلى نائبه "الرئيس المؤقت الحالي" محمد مخبر مهمة رئاسة فريق عمل متخصص للنهوض بالصادرات الإيرانية في أفريقيا.

رئيسي والقرن الأفريقي الكبير

كما ذكر آنفًا، كانت كينيا الوجهة الأولى للرئيس رئيسي، وهي دولة ذات أهمية استراتيجية كبرى للولايات المتحدة في شرق أفريقيا؛ لدورها المحوري في مواجهة الإرهاب وتحقيق الاستقرار الإقليمي، ولا سيما في الصومال وإثيوبيا المجاورتين.

علاوة على ذلك، نجحت طهران العام الماضي في ترميم علاقاتها الدبلوماسية مع جيبوتي، وكان تحسن العلاقات الإيرانية السعودية بمثابة نقطة انطلاق لاستعادة هذه العلاقة، وذلك عقب توقيع الرياض وطهران اتفاقًا لاستئناف العلاقات الثنائية العام الماضي، بعد قطيعة دامت سبع سنوات.

كما سعت طهران جاهدة لتوطيد علاقاتها مع السودان، سواء في عهد البشير أو بعد الإطاحة به، وذلك سعيًا لإيجاد منفذ لها على البحر الأحمر، وتحديدًا "ميناء بورتسودان"، الذي يمكن من خلاله تزويد الحوثيين بالأسلحة، خاصة بعد معركة "طوفان الأقصى" وتصاعد هجماتهم في باب المندب ضد أية سفينة إسرائيلية أو متجهة صوب تل أبيب.

واستغلت إيران الأحداث الأخيرة في السودان في محاولة لاستعادة العلاقات الدبلوماسية التي قطعها البشير عام 2016 في مسعى للتقارب مع السعودية، وفي الوقت ذاته لرفع اسم بلاده من قائمة العقوبات الأمريكية، وقد تحقق هذا الهدف في العام الماضي.

وأشارت تقارير في فبراير/شباط الماضي إلى قيام إيران بتزويد القوات المسلحة السودانية "التي تسيطر على بورتسودان" بطائرات مسيرة متطورة لاستخدامها ضد قوات الدعم السريع، كما ترددت أنباء عن قيامها بتزويد الحكومة الإثيوبية بطائرات مسيرة خلال حربها ضد جبهة التيغراي، ويقال إن هذه المسيرات لعبت، جنبًا إلى جنب مع نظيرتها التركية، دورًا حاسمًا في ترجيح كفة الحكومة في الحرب.

دعم انقلابات الساحل الأفريقي

انتهز الرئيس رئيسي فرصة رفض قادة الانقلاب في منطقة الساحل (مالي وبوركينا فاسو والنيجر) للنفوذ الفرنسي والأمريكي، وقدم بلاده كأحد الداعمين لهذه الأنظمة الرافضة للهيمنة الاستعمارية، في إشارة إلى باريس وواشنطن، وأشاد في سبتمبر/أيلول الماضي، عقب انقلاب النيجر، "بمقاومة هذه الدول الأفريقية للسياسات الأوروبية المهيمنة والاستعمارية".

وفي يناير/كانون الثاني الماضي، وخلال لقاء الرئيس الإيراني المؤقت حاليًا محمد مخبر في طهران برئيس وزراء الانقلاب في النيجر، أكد مخبر إدانة بلاده لما وصفها "بالعقوبات القاسية التي يفرضها نظام الهيمنة"، مؤكدًا استعداد بلاده لتقاسم "الخبرات التي لدينا في هذا المجال مع إخواننا في النيجر".

ويشاع أن طهران تستهدف من هذا التقارب الحصول على حصة من يورانيوم النيجر "300 طن"، ومن المعلوم أن النيجر هي أكبر مصدر لليورانيوم على مستوى القارة الأفريقية، وثالث أكبر مصدر على مستوى العالم.

مواجهة الحركات الجهادية السنية

بعد الانسحاب الكامل للقوات الفرنسية من مالي في أغسطس/آب 2022، والذي كان أحد أسباب تواجدها هو التصدي للجماعات الجهادية في الشمال المتحالفة مع حركة الطوارق المطالبة بانفصال الشمال، قام وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين عبد اللهيان بزيارة إلى مالي.

وخلال الزيارة، تحدث عبد اللهيان عن "مكانة مالي المهمة في سياسة طهران الخارجية" و"ثقته في فتح فصل جديد في العلاقات بين البلدين، واستعداد بلاده لتقديم الدعم لحكومة مالي لمواجهة هذه التنظيمات الجهادية "السنية المسلحة"، وهو ما أكد عليه أيضًا وزير الدفاع محمد رضا أشتياني خلال لقائه بنظيره المالي في مايو 2023.

توظيف المستجدات

دأب رئيسي على استغلال التطورات السياسية والعسكرية لخدمة مصالح بلاده، ومن أبرز الأمثلة على ذلك استغلاله للرفض الأفريقي الرسمي والشعبي للعدوان الإسرائيلي على غزة بعد "طوفان الأقصى" لتعزيز نفوذ بلاده في القارة، حيث عمل على تقديم طهران كأحد أبرز الداعمين للمقاومة في غزة، رفضًا للظلم والعدوان، وتأكيدًا على حق تقرير المصير، وهو أحد المبادئ الأساسية التي قامت عليها منظمة الوحدة الأفريقية، ومن بعدها الاتحاد الأفريقي.

كما سعى أيضًا لاستغلال التقارب الروسي الإيراني الأخير، لا سيما في مجال الأمن وتوريد الأسلحة، كأحد المداخل لتوطيد علاقاتها مع دول القارة، مستفيدًا من تحالف بلاده المسبق مع موسكو في سوريا، وبعدها في حرب أوكرانيا. وهنا بدأت إيران في تقديم نفسها كأحد البدائل لموردي السلاح، خاصة ما يتعلق بالمسيرات التي أثبتت فعاليتها من قبل في أوكرانيا، وفي حرب إثيوبيا ضد التيغراي.

أفريقيا والرئيس الإيراني القادم

بعد رحيل الرئيس رئيسي، يظل السؤال مطروحًا: هل ستواصل إيران على نفس النهج الذي اتبعته في علاقاتها مع أفريقيا، أم ستشهد هذه العلاقات تغييرات، وهل ستكون هذه التغييرات جوهرية أم لا؟

قبل الإجابة على هذا السؤال، يجدر بنا التنويه إلى نقطة جوهرية، وهي أن الخطوط العريضة للسياسة الخارجية الإيرانية يضعها المرشد الأعلى، وقد شهدت فترة حكم رئيسي توافقًا كبيرًا بين المرشد والرئيس، الذي ينتمي إلى التيار المحافظ، في العديد من الملفات الداخلية والخارجية، وهو ما أفضى إلى هذا الانفتاح الكبير على القارة الأفريقية.

وبناءً على ذلك، يمكن القول إن الرئيس القادم، سواء أكان الرئيس المؤقت محمد مخبر أو غيره، سيسعى جاهدًا للحفاظ على المكاسب التي حققتها إيران في عهد رئيسي، لا سيما فيما يتعلق بالعلاقات مع الدول التي تشهد تراجعًا في النفوذ الأمريكي والفرنسي في وسط وغرب القارة، وذلك من خلال تعزيز التنسيق مع روسيا، التي يتنامى نفوذها بصورة ملحوظة في القارة. كما سيكون تزويد هذه الأنظمة بالأسلحة الإيرانية، فضلاً عن المساعدة في مواجهة الجماعات الإرهابية "السنية"، أحد المداخل الهامة في هذا الشأن.

وفي المقابل، سيتم تكثيف التواجد الإيراني في منطقة القرن الأفريقي، خاصة بعد النجاح الإيراني في استعادة العلاقات الدبلوماسية مع كل من السودان وجيبوتي، وستحرص طهران على ترسيخ دعائمها في السودان، مستغلة الأوضاع المتأزمة التي تشهدها البلاد حاليًا، وصعوبة التوصل إلى تسوية قريبة للأزمة، وهو ما قد يمهد الطريق أمام حصولها على موطئ قدم لها في بورتسودان.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة